في الحلقة السادسة عشرة من كتاب “المسلمون بين الخطاب الديني والخطاب الإلهي”، نستكمل الجزء الثاني للخطاب الإلهي للمفكر العربي علي محمد الشرفاء، ويتحدث فيه المؤلف عن أن الخطاب الإلهي واحد لاعوج فيه، ولامذاهب، ولا روايات كاذبة، خطاب يجمع ولا يفرق، ويهدي الإنسان إلي سبل الخير والحق والجمال، جاء من لدن حكيم خبير، بإطلاقِ حُريةِ العَقيدةِ، وحريةِ التفكيرِ، وتَوظيفهِ في البَحثِ والاستنتاجِ، والإبداعِ واستنباطِ العلومِ في شَتى مَناحي الحَياةِ، من خِلال التوجيهاتِ الربّانيةِ فيُ كتابهِ الكريم ليُحرِّرَ الفِكرَ من الاستِسلامِ للأُمَمِ السابِقةِ، ورؤاها، كما أنه خطاب يهدي الحياري ويرشد الضالين إلي ما فيه سعادتهم واستقرارهم.
وإليكم الحلقة السادسة عشرة من كتاب “المسلمون بين الخطاب الديني والخطاب الإلهي”
إنَّ رسالةَ الإسلام، التي بعثَ بها اللهُ سُبحانَهُ وتَعَالى رسولهَ محمَّدًا صلّى اللهُ عليه وسلم يحمِلُها في كتابٍ كريمٍ، ليهديّ الناسَ كافةً، سَبيلَ الخيرِ والصَّلاحِ، وليُخرجَهم من الظُلماتِ إلى النورِ، فيُحرِّرَهُم من استعبادِ البشرِ للبشرِ، واستعْبادِ الأصنامِ لعقولِ الناسِ. وهكَذا جَاءَ الخِطابُ الإلهي ليُحرِّرَالفِكرَ من الاستِسلامِ للأُمَمِ السابِقةِ، بإطلاقِ حُريةِ العَقيدةِ، وحريةِ التفكيرِ، لتَوظيفهِ في البَحثِ والاستنتاجِ، والإبداعِ واستنباطِ العلومِ في شَتى مَناحي الحَياةِ، من خِلا ل التوجيهاتِ الربّانيةِ فيُ كتابهِ الكريمِ، حينما ذكر الله في كتابِهِ الكريم بقولهِ تَعالى ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنَ كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَاَلٍ مُّبِينٍ ﴾(الجمعة 2). وقال تعالى ﴿وَهُوَ الَّذي مَدَّ الأرضَ وَجَعَلَ فيها رَواسِيَ وَأنهارًا وَمِن كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فيها زَوجَينِ اثنَينِ يُغشي اللَّيلَ النَّهارَ إِنَّ في ذلِكَ لَآياتٍ لِقَومٍ يَتَفَكَّرونَ﴾ (الرعد 3) انها دعوة الناس للتفكر فى نعم الله وما تحتويه من فوائد لمصلحة الناس والتعرف على أنواعها ومصادرها كاالشمس مثلا وما يمكن الاستفادة منها فى توليد الطاقة الكهربائية وغيرهاوللأسف تخلف المسلمون عن الركب الحضارى والمشاركة فى التطور العلمى للانسانية نتيجة لعدم اتباعهم للمنهج الالهي الذى يأمرهم بالتفكر والبحث العلمى فاصبحوا مستهلكين لمايصدره الغرب من صناعات ومنتجات بدلا من أن يكون المسلمين هم فى الطليعة يقودون التطور الانسانى حدث ذلك التقهقرعندما اتبعوا الروايات بدلا من الآيات .
إنَّ الّذينَ يَتَمسكونَ باجتهاداتِ الأممِ السابقةِ، وما اعتمدتهُ من رواياتٍ اعتبروها حُجَّةً لآرائِهم ومعتقداتِهم، إذْ مضت العصورُ تلوَ العصورِ،تحجر العقلُ فيهاوارتدّ الفِكرُ خائفًا متراجعًا، حينما وجدَ أكثرُ الناسِ قد قَدّسوا أقوالَ مَن سبقَهم وآمنوا بها إيمانًا يقينّيًّا وتشرّبتْ بها عقولُهم بما نقلوا لهم من رواياتٍ تُشجّعُ على الفتنةِ والتكفير والقتل، وأصبح كل مَن يحاول أنْ يلتزمَ بفريضةِ اللهِ بالتدّبر في كتاب الله خائفًا مذعورًا من التهديدِ والانتقامِ، من تسفيه لرأيه ومصادرة حقه، الذي منحه الله في التفكر والتدبر في ذاته وكونه وخلقه، وبذلك تحوّلَ شيوخُ الدينِ إلى أوصياءَ على الإسلام، وأصبحوا يُحاربونَ كلَّ مَن يَتجرأ أن يُقيم فريضةَ التفكيرِ، التي أمرنا اللهُ بها في كتابِهِ الكريمِ، حتى لا يكشف زيفَهم، وحتى لا يُسقطَ ادعاءاتهم وتفسيراتهم التي تتعارض مع مراد الله في آياتِه لخير البشرية ليحتفظوا بما تحقّق لهم من مكانةٍ اجتماعية تَرتّبَ عليها تحقيق مصالحُ ماديةُ، ظلّوا يُحاربون كلَّ مَن يحَاول أن يتسببُ في ضياع امتيازاتهم الدنيوية ويصدُقُ عليهم قول الله تعالى: ﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ أوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَىٰ كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ﴾ (آل عمران 23)
وَضَعَ اللهُ سُبحانَهُ في خِطابهِ الإلهي، القرآن الكريمِ، القواعِدَ التي تحدّدُ خارطةَ الطَريقِ للإنسان في حياتهِ الدُنيا، وتُعِينُه على أداءِ واجِباتِ العبادةِ دون تناقُضٍ بينَ مُتطلَباتِ الحياةِ الدُنيا، والتَكليفِ الإلهيّ، بِعبادةِ الواحدِالأحدِ، وأداءِ التكاليفِ الدينيةِ، من صَلاةٍ وصِيامٍ وزَكاةٍ وحَـجٍ. والتمسك بالتعاليم القرآنيةِ وبالفضيلةِ والخلقِ الكريم، والتعامل مع الناس بالرحمةِ والإحسانِ والتسامحِ والعدلِ وعدمِ ظلمِ الإنسان لأخيهِ الإنسان.
وتأكيدًا على ما وَرَدَ أعلاَهَ يرسم الله للإنسان خارطة طريق لحياة الانسان في قولهُ تعالى ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأحْسِن كمَا أحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأرْضِۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ (القصص: 77)
وقوله تعالى﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ (القصص83)، فجمعتْ تلك الآياتُ مُلخَصًا لرسالة الإسلام أتاحتْ للإنسان التمتعَ في حياتهِ الدُنيا، دونَ فسادٍ أو تغوّلٍ على مسارٍ آخر في توازنٍ يُحقق العدلَ المطلقَ بينَ ما يريدهُ اللهُ سُبحانَهُ من عبادهِ، وبين رغباتِ ومتطلباتِ الإنسان في حياتهِ الدُنيا ضمن ضوابط المنهج الإلهي وسوف يجزيهم اللهُ خيرَ الجزاء إذا اتبعوا قرآنه والتزموا بعبادتِه وطبّقوا شريعتَه والتزموا بما جاء فى آياته من قيم الفضيلة والاخلاق السامية .
وقد انتهتْ الآيةُ الكريمةُ أعلَاه بأمرٍ حكيمٍ من ربٍ كريمٍ ﴿وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّـهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأرْضِۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ (القصص). وهذا التزامٌ محدّدٌ، على الإنسان أن يتقيّدَ بهِ في سلوكِ حياته وهو عهدٌ وميثاقٌ بين الله وعبده الذي اعتنق دين الإسلام ليُنشَرُ الأمنُ والمحبةُ والسلامُ بين الناسِ، ويرتقي بتعاملهِ مع الناسِ بالإحسانِ معترفًا بإحسانِ اللهِ إليه فيقابلهُ بالإحسانِ للآخرين شاكرًا بذلك نعمةَ اللهِ عليهِ، بهديهِ وتوفيقِهِ، مرتقيًا بالإنسان في سلوكياتهِ مُحقِّقًا الاطمئنانَ والرضى، فيعيشُ راضيًا مطمئنًا بما قَسَمَ اللهُ له من نصيب، وما رزقَه من نعمةٍ، ولا يبغي على الناس بظلمهم أو استغلالهم وأخذ أموالهِم دونَ حقٍّ أو التعدي على حقوقهم، أو إطلاق الإشاعات لإثارة الفتن بين الناس واستباحة المحرّمات، كلّ ذلك يعتبر فَسَادًا في الأرض، ممّا يسبب للإنسان الخروجَ من رحمة الله لأنَّ الله لا يحبّ المفسدين.
إنَّ المولى عزَّ وجلَّ جَعلَ الناسَ شعوبًا مختلفةً، وقبائلَ متعددةً، لا ميزةَ لإحداها على الأخرى، حيث يتطلبُ هذا التعدّدُ والاختلاف في الأعرافِ البشريةِ، التعارفَ بينهم، وتعلّمَ لغةِ كلٍّ منهم، ليتعاونوا فيما يُحقّق لهم الخيرَ والأمانَ والتقاربَ، من خلالِ التبادلِ التجاري والتعاونِ الاقتصادي والصناعّي والزياراتِ السِياحِية والاستطلاعِية، للتعرّف على ثقافاتِ الشعوبِ، وتبادلِ العلومِ والمعرفةِ الإنسانيةِ لجميع خلقهِ، وهو وحدَه سُبحانَهُ مَن يحكمُ على أعمَالِهم، ويُميّزَ من يعملُ صالحًا أو طالحًا. فلا ميزةَ لأي إنسان على آخرَ إلا بما يقدّمهُ من عملٍ صالحٍ لنفسهِ، ولمجتمعهِ فلا حَصانةَ لإحدٍ عند اللهِ، إلا مَن آمنَ باللهِ والّتزمَ بتكاليفِ العباَداتِ والمعاملاتِ، والعملِ الصالحِ ويخاطب اللهُ الناسَ بقولهِ سُبحانَهُ﴿يا أيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (الحجرات 13)
ولقد استمرّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتلو على الناسِ رسالةَ اللهِ إليهم من خِلالِ آياتٍ كريمةٍ في كتابٍ مباركٍ يدعوهم للإيمانِ باللهِ الواحدِ الأحد، ويُبلغَهم رسالةَ اللهِ إليهم، ويُوضحَ لهم ما اَشتبه عليهمَ من مفاهيم ويشرح لهم ما جاء في قصص القرآن من عبر، ويوضِّح لهم الأسباب التي استحقوا بها غضب الله، فعاقبهم على أعمالهم بزوال ملكهم وانهيار دولهم لتكون لهم عبرة فيتجنبوا أفعال مَن سبقهم مِن شرك بالله وظلم الناس ومن استباحة الحقوق وأكل أموالهم بالباطل ولم يجعلوا العدل أساسًا لحكمهم كما أمر الله، ويُحذّرهم من مَغبة تكرار أعمالِ السابقين الذين غضب الله عليهم وأذاقهم العذاب، ويحدد الله سبحانه مهمة رسوله بقولهُ تعالى ﴿يَا أيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إلى اللَّـهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا﴾(الأحزاب 45 و 46)، كما يعلم الناس لماذا بعث الله رسوله إليهم بقوله تعالى (هو الذي بعث في الاميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وان كانوا من قبل لفى ضلال مبين) (الجمعة 2).
وفي حَجّةِ الوداعِ بلَّغ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وَسلم قومَه بأنَّ الله أكمل رسالته وارتضى لعباده الإسلام دينًا، وأتم نعمته على الناس بقوله سبحانه: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسلام دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾(المائدة 3)
وبهذه الآيةِ يبلِّغ الرَسولُ صلى الله عليه وسلم الناسَ، باكتمالِ الخِطابِ الإلهي وإتمامِ المَهمّةِ الموكولةِ إليه. وباكتمالِ رسالةِ المولى عزَّ وجلَّ، للناس جميعًا واختتامِ تلاوةِ كتابِ اللهِ وهي تلاوة الذي أوحي إليه من ربه آيات كريمة في قرآن عظيم مخاطبًا رسوله بقوله سبحانه (كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا أليك وهم يكفرون بالرحمن قل هوربى لا إله الا هو عليه توكلت واليه متاب) (الرعد 30)،فلم يَعدْ بَعدَ ذلكَ قولٌ يُضافُ إلى كلام الله في رسالته للناسِ أو يُعدّلُ عليها أو يَحذفُ مما جاءَ فيها. وقد رضي الله لنا اتباع الإسلام دينًا ومحمدًا صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولًاً وأن نتبع شريعة الله التي حددها للمسلمين في كتاب كريم ليكون منهج حياة للإنسان ومرجعًا وحيدًا لجميع تشريعاتنا وتعاليمه من الفضيلة والأخلاق الكريمة التي تضمنتها آيات القرآن، ولقَد أنبأ اللهُ الناسَ في كتابهِ الكريم، بأنَّ المسلمينَ سَوفَ ينقلبونَ على أعقابِهم بعدَ وفاةِ الرّسولِ صلى الله عليه وسلم، وأنَّ هذا الانقلابَ سيحدثُ في المستقبل كما جاءَ فيَ الآيةِ الكريَمةِ قولهُ جلَّ وعلا ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّارَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أفَإِن مَّاتَ أو قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَنيَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾ (آل عمران 144)
إنّ الآية المذكورة أعلاه تنبئ الناسَ بما سوف يحدثُ بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنّه سيحدث اختلالُ في مسار رسالة الإسلام والتباس في الفهم الصحيح للمنهج الإلهي مما سيترتّب عليه انصراف المسلمين عن مبادئ القرآن وتشريعاته من قيم الأخلاق والفضيلة التي يدعو الناس إليها، وسيحدث فراغٌ خطيرٌ في القيادة والتوجيه، متسببًا في خلق حالة من الخوفٍ والفزعٍ على الدعوة الإسلامية وما سيحدثه من تخبّطٍ وبلبلة في مواجهة الفراغ الإرشادى والقيادي والإداري الذي تركه الرسول بعد وفاته، إضافة إلى الأخطار المحيطة بهم مِن قوى الشر والظلام أعداء رسالة الإسلام الذين يريدون القضاء على الخطاب الإلهي للناس ويمنعونه من الانتشار عند الناس لما رأوا الإقبال على مبادئ القرآن بما تطالِب به من الحفاظ على حقوق الإنسان والحكم بينهم بالعدل، وتحرير الرقيق وتحريم استعباد الناس، لأن الله خلقهم أحرارًا، والمساواة بين جميع البشر دون تمييز لصاحب سلطة أو صاحب ثروة، ولا تفرق بين الناس على أساس المذاهب أو اللون أوالتقاليد، تدعو للرحمة والعدل والحرية والسلام.
ولقد حَدَثَ أول اختلافٌ بينَ المسلمين في اجتماع المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة عمَّن يخلف الرسول في إدارة شؤون الناس، حيث كان كل فريق يعتقد بأحقيّته في خلافة الرسول، وتولِّي القيادة، لولا مبادرة الخليفة عمر بنِ الخطَاب لوأد الفتنة، تقدَّم لمبايعة أبي بكر الصدّيق، فبعد غياب الرسول عندئذٍ توارى النور الرباني وداهمتهم الدنيا بأطماعها وأهوائها وطغت الغرائز الإنسانية على النفوس، واستحكمت فيهم الطموحات والأطماع، فهم بشر ممن خلق سبحانه، حيث النفس الإنسانية واحدة وطموحاتها مشتركة بين الناس إلّا مَن استثناه الله من الرسلِ والأنبياءِ فقط. وتم تنصيب أبي بكر أول خليفة للمسلمين للقيام بمهام إدارة شؤونهم وتأمين استقرارهم وحماية أمنهم، بعد ذلك خفتت حدّة التوتر وهدأ القوم مؤقتًا وظلَّ ما في النفس مختزنًا فيها إلى حين.
ثم تبع هذا الحدث امتناعُ بعض المسلمين عن دفع الزكاة، واعتبرهم الخليفةُ أبو بكر الصدّيق مرتدين، حيث أمر بقتالهم، فسقط كثيرٌ من الصحابة في حروب الرِدّة علمًا بأنَّ التشريع الإلهي في قرآنه الكريم لم يخوِّل أحدًا من خلقه أن يكون قاضيًا على عباده فيما يخص عبادته ولم يعطي حقًّا لرسول أو نبي أن يكون وكيلًا عنه في الحياة الدنيا أو وصيًّا على دينه، فاحتفظ الله بحقه وحدَه في محاسبتهم يوم الحساب، ولم يردْ نصٌّ
في القرآن الكريم فيه حكمٌ على المرتد من السلطة الدنيوْية تأكيدًا لقوله تعالى،﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأتِي اللَّـهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ (المائدة 54) وتسارعت الأحداث بدءًا من محاربة ما سمي بالمرتدين التي سقط في معاركها مئات من الصحابة والمسلمين تَلتْها فتنٌ ومعارك نَشبتْ بين المسلمينَ أدّتْ إلى اغتيالِ ثلاثةٍ من الخلفاءِ الَّذِين خَلَفوا الرسولَ صلّى اللـّه عليه وسلم في إدارةِ شؤون النّاسِ، وهم عُمر وعثمان وعليّ، كما أنه بعد مقتل عثمان حدثت «معركة الجملِ» بين أقرب الناس إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، عائشة رضي الله عنها زوجة رسول الله، وعلّي بن أبي طالب ابن عم الرسول بشأن مطالبة فريق أم المؤمنين بالقبض على المتهمين بقتل عثمان وبعد ذلك نشبت «معركةِ صِفّيـن» بيـن معاوية بن أبي سفيان وعلّي بن أبي طالب، قتال من أجل السلطة وأحقية الخلافة بعد عثمان التـي أفرزت نتائجُها فرقةَ الخوارج الذين انشقوا على علي بن أبي طالب حينما وافق على التحكيم ثمّ بدأتْ حُروبُ الأمويّين والعباسيّين التي استمَرَّتْ لعُقودٍ، سقط في تلك المعارك آلاف المسلمين ومازالتْ الحروبُ والصراعاتُ مُستمرةً حتى يومنا هذا بينَ المسلمين، ومازال الأبرياء يسقطون مضرجين بدمائهم ظلمًا وعدوانًا عندما خلطوا الدينَ بالسياسة واتبعوا الروايات الشاذة التي أفرزت سمومها بين المسلمين، محرضة على الفتن ومشجعة على قتال بعضهم عندما امتزجت المصالح الدنيويّة بالأهواء وحبّ السلطة،وتمَّ التوظيف السياسي لها، متبعين تفاسير الآيات التي تتناقض مع الآيات وتحض على أطماع التسلّط وغزو المدن الآمنة تحت شعار الفتوحات الإسلامية ومحاربة الكافرين تحت راية الإسلام.
اُرتُكبت المجازرُ التي لم تفّرق بين المسلمين وغيرهم شيوخًا ونساءً وأطفالًا، قتلًا وتشريدًا، شوهوا رسالة الإسلام وما تدعو إليه من رحمةٍ وعدلٍ ومحبةٍ بين الناس والإحسان إليهم.
إنَّ تلك الأحداثَ تؤكدُ ما نَبَّأنا عنهُ القرآن الكريم، بأنّ الناسَ سوف ينقلبون على أعقابهم عندما تصبح الدنيا أكبر همهم بعدَ وفاةِ الرسول عليه الصلاة والسلام، نسوا اللهَ سُبحانَهُ، فأنساهم أنفسَهم، عندما ابتعدوا عن رسالتهِ، التي تحميهم من شرورِ أنفسهم، واتبعوُا الشَيطانَ الذي أضلهم كما قالَ اللَهُ جلَّ وعلا ﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ ألَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ (المجادلة: 9)، ولمْ يجعلوا كتابَ اللهِ دليلَهم ومُرشدَهُم، بل اتّبعوا أهواءَهم فتفرَّقت بهم السبلُ عن الطريقِ الَّذِي رَسَمهُ اللهُ لَهُمْ.
لقد كانت قوى الشرِّ متربصةً ومستنفرةً للهجومِ على دينِ الإسلام، وحاوَلت بشتى الوسائلِ اغتيالَ رِسالَتهِ، رسالةِ الحريةِ والعدلِ والمحبةِ والسلام
وهكذا استدعتْ تلكَ القوى شَياطينَها ومُفكّريها، ليبتَدعوا أخبارًا مُلفَقةً وإشاعاتٍ مُزيفةً وأحداثًا مزورةً، واختلقوا الدّعايات المضلّلةَ، ونَسبوا الكثيرَ من ذلك إلى رواياتٍ عن الصحابةِ واجتهادِ العُلماءِ الَّذِين اعتمدَ كلٌّ منهم على مَصادرهِ الخاصة وكونوا مذاهب عدة، مكونة زعامات دينية متعددة اتخذتْ من الرواياتِ مصادرَ لمساعدةِ الخلفاءِ في تمكينِ سلطتهم وحمايةِ مُلكهم وأنَّ اتّباعَهم سوف يُرضي اللهَ عنهم ويُدخلهم الجَنّة استخدمو نفاق السلطان ليفوزوا بالجاه والمغنم والمكانة الاجتماعية التى تمنحهم التميز بين الناس انهم أولياء الشيطان الذين ادعوا بأنهم دعاة الاسلام وحماته .
تلك الزعاماتُ الدينيةُ أوجدتْ مناهجَ متناقضةً، تَبِعَهمُ أغلبيةُ العوامِ من الناسِ، خاصةً عندما استخدموا رواياتٍ مختلفةً باسم الأحاديث، وشَرَعَ كلُّ ذي منهجٍ أو صاحبِ طريقةٍ في توزيع النّعمِ والكراماتِ على الناسِ، وقاموا بتوزيع ثوابِ وعقابِ يوم القيامةِ وكأنه بيدهم ميزان الحساب فجعلوا من أنفسهم أوصياءَ على الناسِ ووكلاءَ عن الخالقِ في الأرضِ، يَمنحونَ الجَنّةَ لبعضِ الناسِ، ويعاقبون البعضَ الآخر بالنارِ، سابقين بذلك عَصرِ تسويقِ صُكوكِ الغُفرانِ، وبيع عقاراتٍ في الجَنّة، وما جرى في القرنِ الثاني عشر الميلاديّ في روما.
ويشير إليهم الله بقوله ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾ (الزخرف 32)
إنّ كلَّ الذين اتخذوا من أنفسهم دعاةً للإسلام، وتمّ تصنيفهم بشيوخ الدين وعلمائه، في الماضي والحاضر كانوا يعلمون أنَّ حسابَ اللهِ لعِبادهِ، لا يَعلمهُ أحدٌ غيره ولا يقرِّرُهُ إلا هو وَحْدَهُ، لكنهم كانوا يُروّجون لمفاهيمِهم الخاطئةِ خدمةً لمصالحِهم الشَخصيّةِ. واستقطاب العوام لخدمة مآربهم، أما حسابُ الإنسان من ثوابٍ وعقابٍ الَّذِي هو في علمِ الغيبِ، فإنه من شروطِ الإيمانِ وأنَّ الله وحده يحدّد مَن يثاب ومَن يستحق العقاب.
وقوله تعالى (يَومَ يَأتِ لا تَكَلَّمُ نَفسٌ إِلّا بِإِذنِهِۚ فَمِنهُم شَقِيٌّ وَسَعيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذينَ شَقوا فَفِي النّارِ لَهُم فيها زَفيرٌ وَشَهيق(ٌ106) خالِديَنَ فيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالأرضُ إِلّا ما شاءَ رَبُّكَۚ إِنَّ رَبَّكَ فَعّالٌ لِما يُريد(107) وَأمَّا الَّذينَ سُعِدوا فَفِي الجَنَّةِ خالِدينَ فيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالأرضُ إِلّا ما شاءَ رَبُّكَۖ عَطاءً غَيرَ مَجذوذٍ (108) (هود 105 – 108).
ولم يلتفت الناسُ إلى هؤلاءِ الّذين صُنِّفوا بالعلماءِ وشيوخِ الإسلام والدّين فهُمْ مَنْ حَرّفوا فَهْمَ القرآن ووضعُوه في خِدمةِ مصالِحهم الدنيويّة فقدّسَهم الجاهلون ورفعوهم فوقَ الجميعِ، فاكتسبوا قيمةً اجتماعيةً في مجتمعاتِهم وأوجدوا لهم هالة من القدسية تَسابَقَ الناسُ لهم بالعَطَايا والهَدَايا، فاكتسبوا الثرواتِ وأصبحوا قوةً اجتماعيةً، وسلطةً سياسيةً، تؤثّر في المجتمعات الإنسانيّةِ وتسُوْقهم في كثيرٍ من الأحيانِ إلى التصادمِ والاقتتالِ فيما بينَهم، وظّفَوا الدينَ في خدمةِ السياسةِ، للتغريرِ بالناسِ أنَّهم الفئةُ الصادقةُ والناجية، واستغلوا مكانتهم الاجتماعية، في خدمة مصالحهم الخاصة، وسوف يحاربون بلا هوادةٍ كلَّ مَن يحاول المساس بامتيازاتهم وسوف يشنّون عليه حملة مسعورةً لا يستبعد اتهامه بالكفر، ولو كانوا يفقهون لعلموا أنَّ الله سبحانه لم يعطِ لرسول أو نبي حّقَّ تكفير الناس، ولا يملك أي إنسان ذلك الحقَّ لأنَّ العبادات علاقة بين الله وبين عباده، وقد يتهمونه أيضًا بالإلحاد لإلجامه أو القضاء عليه بشتّى الوسائل وليمنعوا عنه فريضة إلهية أمر الله عباده جميعًا بالتدبر والتفكر في آياته وفهم مقاصد الله فيها لخير الناس وصلاحهم.
إنَّ المأزقَ الَّذِي عَاشتهُ وتعيشهُ الأمةُ العربية على مدى قرونٍ عدّة، تمَّ فيها افتعالُ الرواياتِ وتأليفُ القِصَصِ، كما تم تسويق الروايات الإسرائيليةِ وأساطيرهم الخرافيّة، وابتداعُ الأحداثِ التي تتناقضُ مع مُرادِ الله في كتابهِ العزيز، التي تُطلقُ الشبهاتِ والإشاعاتِ على رسولهِ الكريمِ، وتقلّلُ من شأنِهِ، وتسيء إلى سُمعتهِ، بما يَستهدفُ النيلَ من سلوكياتِه للإساءةِ لدينِ الإسلام وما يترتّب على تلكَ المقولاتِ، من شكوكٍ تخلقُ تناقضًا صارخًا معَ القرآن الكريمِ، والمنطقِ والعقلِ، فتأخذُ الإنسان إلى منعطفاتٍ شديدةِ الخطورةِ تخلق لديه الشكوك والظنون السلبية.
ومن الناسِ من صَدَّقَ تلك المقولاتِ والرواياتِ والتفاسيرَ المسمومةَ، فتَحوّلَ إلى الطّاعةِ العَمياءِ لأئمّتهِ وقياداتهِ سُلبتْ إرادتُه حين سيْطروا على عَقْلهِ فأصبحَ آلةً شديدةَ الخطورة ينزع إلى التطرف، نمت في نفسه غريزة الكراهية بتلقينه معلومات مسمومة ووعود الروايات الكاذبة بالجنة المزعومة ليَنحرفُ إلى مجتمعِ المُفسِدين في الأرضِ، يكفِّر الناسَ ويقتل الأبرياء دون ذنبٍ أو جريرةٍ.
ومن الناسِ مَن لم يستطع عقله أن يقتنع بتلك الروايات المخالفة لآيات الله التي تتعارض مع المنطق السليم والعقل فكفرَ بها، فخلقتْ لديهِ الحيرةَ والتخبّطَ حينما يسمع مَن يسمونهم علماء الدين يرددون تلك الخرافات والروايات يدعون الناس للإيمان بها واتباعها حتى وصل ببعض الشباب الأمرُ إلى الإلحادِ، ولسان حالهم يتساءل إذا كان كبار العلماء يدفعوننا لتصديق تلك الأساطير فأين الحقيقة؟! وعقلنا لايستطيع تقبل تلك الروايات التى خلت من كل القيم تدعو الناس للقتال فيما بينهم وتنشر الفتن وتنزع التراحم بين الناس وتحث على خطاب الكراهية بين أبناء الوطن الواحد .
ويستمرون في البحث عمَّن يأخذ بأيديهم إلى طريق النور ليخرجهم من الظلمات ليحرّر عقلَه من الحيرة لتطمئنَ نفسُه ويدركَ أن رحمةَ الله بخلقه أرسل لهم منهجًا يضيء للناس طريق الخير والسعادة والطمأنينة والسلام النفسي عندما يرتقي بإيمانه بالله الواحد الأحد ويستيقن بقدرة الله كما قال تعالى (إن يمسسك الله بضر فلاكاشف له الا هو وان يردك بخير فلاراد لفضله يصيب به من يشاء عباده وهو الغفور الرحيم) يونس 107 كما يطمئن الله عباده إذا أذنبوا أو أخطؤوا، مؤكدًا لهم قربه منهم وسعة رحمته لهم بقوله تعالى (قل ياعبادى الذين اسرفوا على انفسهم لاتقنطوا من رحمة الله ان الله يغفر الذنوب جميعا انه هو الغفور الرحيم) (الزمر 53)، فالله سبحانه يفتح بابًا لأمل للناس ليبعدهم عن اليأس، مؤكدًا للناس أنَّ بابه مفتوٌح دون وسيط لكل مَن يريد أن يعود إليه في أي وقت وفي أي لحظة مُخلِصًا في عبادته للواحد الأحد، مؤمنًا بقدرته، واثقًا من رحمته، راضيًا بقضائه، واثقًا من وعده سبحانه بقوله (واذا سألك عبادى عنى فانى قريب اجيب دعوة الداعى اذادعان فليستجيبوا لى وليؤمنوبى لعلهم يرشدون (البقرة 186).
إن الذين حادوا عن طريق الحقِّ، كتاب الله وآياته، واتبعوا طريق الشيطان ورواياته خُلقت فيهم نزعة الشر، وفصلتهم عن واقعهم، ودفعتهم للظلم والظلام.
وهكذا يُصبحُ البعضُ ممّن يَستَمتعونَ بقتلِ مُخالفيهم قضاةً، يحكمونَ على الناسِ بالكفرِ والضلالِ، فيُنَصِبّون أنفسَهم قضاة ويمارسونَ شَتى أنواعِ التّعذيبِ والتنكيلِ بالذين يخالفون منهجهم الضال، تحولوا إلى وحوش مسعورة، فقدوا العقل لديهم وماتت ضمائرهم، معتقدينَ أنَّهم إن قَتَلوا مُخالفيهم، فإنّهم بذلك يُقاتِلون في سبيلِ اللهِ كما تم تلقينهم من شيوخهم المجرمين يسْوْقونهم كالدواب إلى حتفهم، مقتنعين بأنَّه سوف يكون جزاؤهم الجَنّةَ، وتصحيحًا لذلك المفهومِ الخَاطئ، فقد قال سُبحانَهُ وتعالى ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾(البقرة: 190). وهذه الآية تدعو المسلمين إلى التقيّد بهذا التشريع في الحروب، وهو حقُّ الدفاع مَنَحَهُ الله للناس في الذود عن أوطانهِم وأموالِهم وأعراضِهم وحذّرهم من الاعتداءِ على الناس.
إنَّ الَّذِين يُقاتلونَ في سَبيلِ اللهِ دفاعًا عن أنفسِهم، وأعراضِهم وأوطانِهم وقُـتلوا في سبيل ذلك، فهم الَّذِين يستحقّون أن تكون لهم جنات النعيمِ كما وعدهم الله سبحانه (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل امواتابل أحياء عند ربهم يرزقون.) آل عمران 169وأما الَّذِين اتبعوا فُقَهاءَ التقتيلِ والتكفيرِ، والخوارج والمارقينَ وغيرَهم من الفِـرقِ والمللِ الَمنحرفةِ فَجزاؤهم في الحياة الدنيا ويوم القيامة كما قال تعالى (انما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فساداأن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الارض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الاخرة عذاب عظيم) المائدة 33.
إنّ اللهَ يَصفُ أولئكَ الإرهابيين بالَّذِين خسروا الدّنيا والآخرةَ ولم يتّبعوا ما أَنزلَ اللهُ عَلى رسولهِ من نورٍ يهدي به الناسَ بقولهِ تعالى ﴿قُل هَل نُنَبِّئُكَم بِالأخسَرينَ أعمالًا﴾﴿ الَّذينَ ضَلَّ سَعيُهُم فِي الحَياةِ الدُّنيا وَهُم يَحسَبونَ أنَّهُم يُحسِنونَ صُنعًا﴾(الكهف 103و 104).
إن الفِرَقَ الهدامةَ التي تقترفُ الآثامَ وتستبيحُ الأوطانَ، وتَسرقُ ثرواتِ الناسِ وتستَعبِدُ البشرَ، وتحرقُ الأحياءَ وتقتلُ الأبرياءَ، وترتكبُ الجرائمَ وتقتلُ النَفسَ البريئة فقَدْ بَاءَ أتباعُها بغضبِ اللهِ واستحقّوا عِقابَه، وإنَّ اللهَ لا يُصْلحُ عملَ المفسدين. وقدْ وصَفَهم اللهُ بقَولِهِ تَعَالى ﴿وَالَّذينَ يَنقُضَونَ عُهدَ اللَّهِ مِن بَعدِ ميثاقِهِ وَيَقطَعونَ ما أمَرَ اللَّهُ بِهِ أن يوصَلَ وَيُفسِدونَ فِي الأرضِ أولئِكَ لَهُمُ اللَّعنَةُ وَلَهُم سوءُ الدّارِ﴾ (الرعد 25).
وللخروجِ من هذا المأزقِ الكارثي، الَّذِي وصلتْ إليه الأمةُ الإسلاميةُ، يتوجّبُ على جميعِ العلماءِ المخلصيـنَ والمفكّرينَ والمثقفـين أن يتحمّلوا مسؤوليةً تاريخيةً عظيمةً، وذلك بأن يعتمدوا الخِطابَ الإلهي في القرآن الكريمِ، المرجعَ الوحيدَ الَّذِي يُمكنُ لهم بهِ أن يستنبطوا منه التّشريعاتِ التي تتطلبُها مجتمعاتُهم، فيؤسّسوا لمنهجٍ يرتقي بالمسلمين في عبادتهم ويترجموا آيات الفضيلة والأخلاق في سلوكهم ويصحّحوا صورة الإسلام للناسِ، ويُبرزوا عَظَمَتَه في قيمِ الرّحمةِ والعَدلِ والسَّلامِ والتعاونِب ين البشرِ على أَساسِ أن الدينَ عند اللهِ الإسلام وأن الوطنَ للجميع بكل دياناتهم ومذاهبهم، آمنين مطمئنين فيه، لافرق بينهم في اللون والعقيدة واللغة.
لذا أصبحت المرجعياتُ المختلفةُ والطوائفُ المتعدّدة، عاملًا رئيسيًّا أدّى إلى انقسامِ الـمسلمين، باتّباعهم مذاهبَ شتى، تبنّت كلُّ طائفةٍ خِطابًا دينيًّا يتفقُ مع أهدافِهم في خدمةِ مصالحِهم الدنيوية، للوصول إلى سلطةٍ أو تحقيقٍ فوائدَ ماديةٍ لتجعلَ لهمْ مكانةً مميزةً في مجتمعاتِهم.
فلا إكراهَ في الدّينِ، ولا وصايةَ لأحدٍ على غَيرهِ إلا التعاملَ بالحُسنى، واللهُ يفصلُ بين الناسِ يومَ القيامةِ، تأكيدًا لقولهِ تَعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شيء شَهِيدٌ﴾(الحج 71) وقولِهِ تَعَالى ﴿وَقُلِ الحَقُّ مِن رَبِّكُم فَمَن شاءَ فَليُؤمِن وَمَن شاءَ فَليَكفُر﴾(الكهف 29).
وللتأكيدِ بأنَّ الخالق سُبحانَهُ وتَعَالى أعطى عِبادَهُ الحريةَ المطلقةَ، في اختيارِ العقيدةِ التَي يؤمنون بها والَديَنِ الذي يتعبّدون بهِ قولِهِ تَعالى ﴿وَلَو شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الأرضِ كُلُّهُم جَميعًا أفَأنتَ تُكرِهُ النّاسَ حَتّى يَكونوا مُؤمِنينَ﴾(يونس 99)، فإنَّ هذهِ الحريةَ مصانةٌ مُنذُ خُلقِ آدمُ أولُ البشر، والَّذِي مُنحَ حقَّ الاختيارِ، عندما اقترب من الشجرةِ التي كانت مَمنوعةً عَنه، بالرغم من أنّ اللهَ قد أنذرهُ بأنْ لا يقتربَ من الشجرةِ فسيكون من الظالمين، إنَّ هذه الحريةَ هيَ التي تُتيحُ للإنسان الاختيارَ بين الخَيرِ والشَرِ وهو وحده يتحمل مسؤولية اختياره، وسيلتهُ هي العقلُ، ليفرق بين الحق والباطل ويكتشف الحقيقة والوهم بين الروايات والإسرائيليات وبين الخطاب الإلهي كتابُ اللهِ سُبحانَهُ في قرآنهِ الكريمِ الذي أنزله على رسوله الكريم هداية لعباده ونورًا يضيء لهم الطريق المستقيم، واللهُ وحدَهُ سُبحانَهُ وتعالى سيفصلُ بينَ الناسِ جميعًا يوم الحساب.